فالإنسان بين نزوعين دائمين: هبوط إلى دركات لا يعلم مداها إلا الله، وعلو إلى مقامات لا يدركها إلا من خلقه وسوّاه. وبين تعاقب الأيام والشهور، يظل الناس غارقين في لهو الحياة، كأنهم نيام لا يستفيقون، كلٌ منشغل بشؤونه، لا يلتفت إلى دوران الزمن إلا بمقدار ما يصيبه من خير أو شر. غير أن طارقًا واحدًا يمر كل عام، يوقظ النيام وينبه الغافلين، إنه شهر الصيام، الذي افترضه الله على هذه الأمة كما فرضه على الأمم من قبلها، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
في هذه الآية إشارة إلى الحكمة العظمى للصيام: التقوى. فهو يضبط النفس، ويطهرها من غلوائها، إذ إن الشبع يغذي الشهوة، أما الجوع فيخمدها ويكبح جماحها. والصيام مدرسة للفضيلة، يغرس في النفس الصدق، والوفاء، والأمانة، والصبر، فإذا انقادت النفس للامتناع عن الحلال طاعةً لله، فهي أولى أن تمتنع عن الحرام حياءً من الله. ومن هنا كان الصوم طريقًا للترفع عن الرذائل، والتحرر من سلطان الشهوة، حتى لا يكون المرء أسيرًا لنزواته كالحيوان الأعجم، بل يسمو بإرادته ويقوى على مجاهدة نفسه
وما أعظم ما يبعثه الصوم في القلب من إحساسٍ بالنعمة ! إذ لا يدرك المرء قيمة العطاء إلا حين يحرم منه، فإذا جاع العبد وشعر بحرقة الجوع، تذكر المحرومين، وسارع إلى التصدق والإحسان. وقد سُئل سيدنا يوسف -عليه السلام- لما كان يجوع وهو على خزائن الأرض، فقال: "إني أخاف أن أشبع فأنسى الجائع"
وللصوم منافع لا تقتصر على الروح وحدها، بل تمتد إلى الجسد، فهو ينقي البدن من الفضلات، ويقوي الصحة، حتى أقرّ الأطباء بفوائده العظيمة. فسبحان من جعل فيه دواءً للقلوب والأبدان
إن الله -سبحانه- لم يفرض الصوم ليشق على عباده، بل لحكمة جليلة ومصلحة عظيمة، فجعل مدته محدودة، وساعات الجوع مقننة، ومع ذلك لم يكلفنا ما لا نطيق، فمن كان مريضًا أو مسافرًا، فله أن يفطر ويقضي صيامه بعد زوال العذر، فقد قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ثم أكد رحمته بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
وفي الحديث القدسي، خصّ الله الصوم بمزية فريدة فقال: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به". فمن ذا الذي يدرك عظمة هذا الجزاء، وهو مكفول من الله نفسه ؟
وختامًا، أتوجه إلى إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بأطيب التهاني بحلول شهر الخير والعطاء، داعيًا الله أن يجعله موسمًا للمغفرة والرحمة، وأن يوحد صفوف المسلمين، ويجمع كلمتهم، وينصرهم على أعدائهم، ويرزقهم الأمن والإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه
بقلم الأستاذ/حسن بن أحمد الحداد
خطيب الجامع القاسمي ونائب قاضي موروني